- 7 -
في يـديـك أستـودع روحي
هذه آخر ما ينطقه لسان الإنسان الملتصِق بالمسيح، والحيّ به وفيه. فنحن نستودع أنفسنا في يديّ الآب الحنون.. ونلفظ آخر نفس بهذه الكلمات التي قالها الابن الوحيد لأبيه.
وإن كان في لحظة الانطلاق يعجز اللسان المادّي عن النطق، ولكنّ أرواحَنا الملتصقة بيسوع القيامة لا تموت. فإن ماتت الكلمات على الشفاه، والجسد يذوي ويضمحلّ، فالقلب ناطق بشهادة الحياة، يقول للآب: «فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو23: 46).
❇️
ويدُ الله حانية، بل هي الحنُوّ كلّه. لا أذكُرُ عدد النفوس التي وقفتُ بجانبها في ساعة احتضارها.. وأشهدُ كم رأيتُ عجائبَ.. في ساعة نياحة والد "أبونا بيشوي" كان أبونا يحتضنه، ويقول اسم الخلاص في أذن أبيه، ويقول: «قول يا يسوع يا بابا.. قول يا ربي يسوع.. يسوع بيحبك.. يا رب يسوع ارحمني.. يا رب يسوع المسيح خلصني». وكانت شفتا الرجل الطيّب تتحرّكان بدون صوت، إلى أن أسلَمَ روحَه في يديّ الآب، وهو ينطق باسم ابنه الحبيب فادي نفوسنا.
❇️
سيّدة بارّة في وقت احتضارها..همستُ في أذنِها قائلاً كلمات المزمور (30: 1): «أُعَظِّمُكَ يَا رَبُّ لأَنَّكَ اِحتَضَنْتَنىِ».. فأكملت بإعجاز.. «وَلَمْ تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي». حتّى تعجّب الحاضرون، إذ كانت في غيبوبة كاملة.
❇️
سيّدة أخرى فاضلة.. وقفتُ إلى جوار سريرها في المستشفى.. وحولها كلّ الأُسرة يبكون.. فلمّا صلّينا، وختمنا الصلاة بالصلاة الربانيّة، ورشمتها بالزّيت وقرّبتُ الصليب المقدّس نحوها.. قبّلتْهُ وأسلمَت روحها بيدِ الربّ.. فكانت قُبلَتُها الأخيرة للصليب أكبر عزاء، أنّها عبَرَت وهي حاملة للصليب، ومحتضنة الصليب بقبلات الحبّ والنصرة والفرح.
❇️
أب فاضل زرتُهُ قبل يومٍ من انتقاله.. لم أكن أعرفه، وكان يسكن على بُعد ساعة سَفَر بالسيّارة، ولكنّه أرسل إليَّ أحد أقاربه، فذهبت.. جلسَ معي على انفراد وقال لي: أنا اشتهي هذا اليوم لأنطلق، إنّنى أحبّ المسيح إلهي حُبًّا فائقًا مدى حياتي، وأنّ شهوة قلبي أن أراه رؤى العين.. عشتُ بالإيمان وأتطلعُ إلى العيان. أمّا الموت فلا يوجد عندي ذرّة خوف.. ولكنّني أشفق على زوجتي وأولادي. وأوصاني أن أصلِّي أن يعطيهم الربّ سلامَهُ الإلهي. رأيتُ في الرجُل شجاعة الشهداء، وعلمتُ أنّ الحبّ الإلهي متى تملَّكَ القلب، اشتهَتْ النفس الانطلاق بلا خوف.
«وَلَهُمْ قِيثَارَاتٌ... وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً» (رؤ5: 8، 9)..
كان قرار التسبيح في العهد القديم، هو شُكر الله لأنّه صالح، وأنّ إلى الأبد رحمته.. فماذا يُقَال عن قيثارات التسبيح السماوي؟
لقد أدرك القدّيسون صلاح الله ورحمته على بني آدم.. فخلَّصهم خلاصًا أبديًّا.
فموسيقى القيثارات السمائيّة، ولحن التسبيح الأبدي، واللغة والكلام، كلّ ذلك ليس ماديًّا، ولا يقَع تحت الزمن ولا قياسات الجسد، فالملائكة يسبّحون بأصواتٍ لا تسكُت، ولكنّها ليسَت أصوات حناجر جسديّة، لأنّهم مجرّدون من المادّة. والترنيمة في أفواه المَفديّين، ليسَت مِن كلمات البشر ولا من تأليفهم، ولكن كلّ ما يُقَال عنها أنّها جديدة. ولم يقدر أحدٌ أن يتعلّمها إلاّ الذين علّمهم الروح القدس، وهي جديدة وقديمة في آنٍ واحد. وقيل عنها أنّها ترنيمة موسى عبد الرب في يوم عبور البحر. حينئذ سبّح موسى وجماعة بني إسرائيل «تعالوا نسبّح الربّ لأنّه بالمجد تمجّد». وهي تسبحة الخلاص، تسبحة العبور، يرنّمونها الذين عبروا من هنا إلى هناك، وكانت يمين الرب تصنع معهم القوّة. طبعًا ليس هناك زمن، فالتسبيح أبدي لا ينتهي ولا يتوقّف، بل كدقّات قلب الجسد بالنسبة للحياة الأرضية.. فطالما هناك وجود في حضرة المسيح ومجده، فالحمد والشكر على معروف الربّ يَبقَى ويدوم.
«يَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ» (رؤ7: 17)..
المسيح هو الماء الحي، هو ماء الحياة الأبدية فهو يقتادُهُم إلى الارتواء منه وفيه.. شيء يعسُر وصفَه. يا للفرح الأبدي، ويا للنصيب الصالح الذي لن يُنزع مِنّا إلى الأبد.
وإن قِيل أنّ لهم قيثارات من ذهب، فإن كان الذهب على الأرض هو أغلى المعادن وأثمنها، وإن كانت القيثارات على الأرض هي المعازِف التي تُحَرِّك أوتارُها خلجاتِ النفس. فماذا تكون قيثارات التسبيح التي تُعطَى للغالبين في السماء، التي بها يرنّمون ترنيمة الغلبة والخلاص، ويعطون الشكر والمجد والكرامة للجالس على العرش، في شركة مع ألوف ألوف وربوات ربوات الملائكة ورؤساء الملائكة؟! فلا هي أصوات بشريّة وحناجر جسديّة، ولا هي آلات ماديّة، ولا هي كلمات من هذا العالم.. إنّها السماويّات بعينها، كُتِبَتْ لنا بحروف ماديّة، حتّى تتشوّق نفوسنا إلى الميراث السعيد، ونشتهي أن نُكمِّل سعيَنا، حتّى نَلحَق بمَن سبقونا إلى المجد.
(يُتَّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك