2020/08/21

سفر التكوين

 



         تأمّلات في أصحاحات من سفر التكوين 

أصحاح 21

- 2 -

فِطام إسحق: 

 فكبر الولد وفُطِمَ، وصنع إبراهيم وليمةً عظيمةً يوم فطام إسحق، فإن حُسِب إسحق أنّه ثمرة الإيمان الأولى، وثمرة الرجاء، وبالأكثر ثمرة الحبّ لله والثقة فيه، فإنّ فطامه يعني روحيًّا حَدَثًا عظيمًا، يَجلِب الفرح وتُولَم له الولائم.
لقد شَبّ الرضيع وتخطَّى مرحلة الرضاعة، صار من اليوم يطلب طعام البالغين؛ الذين صارت لهم الحواس مُدَرَّبة كقول الرسول بولس.

هذا يعني التغيير الذي يَطرَأ على الإنسان الروحي، فينقله من طفولة الروح حيث كان يغتذي على اللبن العقلي العديم الغشّ، يَرضَعه من أمّه التي هي الكنيسة، مُمَثَّلة في آبائها ومعلّميها كقول القديس بطرس الرسول: «كَأَطْفَال مَوْلُودِينَ الآنَ، اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ» (1بط2: 2). ثم الدخول في خبرة القدّيسين الذين صارت حواسّهم مُدَرَّبة، وأرواحهم قادرة على التمتع بطعام البالغين.

من جهة أخرى قد تُمَثِّل هذه المرحلة، يوم أن يكُفّ الإنسان عن طلب ما للطفولة «لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْل كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أبطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ» (1كو13: 11).
فهذا هو اليوم الذي فيه تبطُل حركات الطفولة وفكر الطفولة، ويدخُل الإنسان في قامة أخرى، متعاملاً مع الله بنضج الروح والعقل، الكلام والفكر جميعًا.

من مظاهر الطفولة هذه، الفرح بالعطايا والنظر إليها.. كلّ ما يَشغَل بال الطفل هو ما يحصل عليه، وما يتوقّعه من أبيه لا يتخطّى متطلّبات السذاجة، يفرَح إذا أتاه أبوه لعبةً يلهو بها، أو حلوَى يأكلها، ويرقُص طَرَبًا لنواله تلك العطايا الصغيرة، ويحزَن ويبكي إذا لم ينَل مِنها شيئًا. هذه الأمور هي التي تتحكّم في سروره أو حُزنِهِ، في فرحِهِ أو شقائِهِ وتعاستِهِ.
أمّا إذا فُطِمَ من هذه، تسقط هذه الاعتبارات الطفوليّة وتتدرّج العلاقة بأبيه لتدخل مراحل النضوج الواعي والوعي الناضج.
أو قد يُعبِّر الفطام عن الوقت الذي تُفطَم فيه النفس عن طَلَب العالميّات، وتكُفّ كفًّا نهائيًّا عن الحياة التي تتغذّى على شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة. وإذ تُفطَم النفس عن هذه في يوم مشهود، تكون قد فتحَتْ فاها لتقتات بالمَنّ النازل من السماء، إذ تكون قد فُطِمَتْ عن كلّ خيرات مصر الوهميّة.
وسواء كان هذا أو ذاك، فإنّه في جميع الأحوال يَحِقّ أن تُصنَع الوليمة لهذا الفِطام من أب الآباء، فرحًا بصغيرِهِ الذي شَبّ عن طوق الرضاعة، وصار له الدخول إلى مراتِب النامين في النعمة، النامين في القامة لدى الله والناس.

«وَرَأَتْ سَارَةُ أبنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لأبرَاهِيمَ يَمْزَحُ، فَقَالَتْ لأبرَاهِيمَ اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَأبنَهَا، لأَنَّ أبنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ أبنِي إِسْحَاقَ. فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ أبرَاهِيمَ لِسَبَبِ أبنِهِ. فَقَالَ اللهُ لأبرَاهِيمَ لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَأبنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ». (تك21: 9-13).
 كَتَبَ الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية يقول: «قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ؟ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإبرَاهِيمَ ابنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ. وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ، الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلكِنَّهُ يُقَأبلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعًا، فَهِيَ حُرَّةٌ... نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ. وَلكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ، هكَذَا الآنَ أَيْضًا. لكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَاب؟ اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابنِ الْحُرَّةِ. إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ» (غل4: 21–31). 
 لم يكُن الصبيّ إسماعيل قد تجاوز سنّ الطفولة بعد، لأنّ هاجر كانت تحمله. ولكِنْ هل تُخفَى حركات الإنسان الطبيعي الغريزي، على سارة التي بالإيمان عاشت مشوار الحياة مع الله؟ 
 كما تَحمِل البذرة كلّ صفات الشجرة، هكذا بَدَتْ على إسماعيل ولو في سنّ مبكّرة علامات الإنسان الحيواني، إذ رأته (سارة) يَمزَح، نظرَتْ بعين المستقبل، بعين الإيمان، وأدركَتْ كم يكون الخطر على إسحق ابن الموعد من ابن الجسد، المولود حسب الجسد. فقالت لإبراهيم: اطرُد الجارية مع ابنها.
 هنا يصير الدرس نافعًا، للذين يودّون أن يُنَشِّئوا أولادهم كَوَرَثة الملكوت، كيف يحرصون عليهم من المعاشِرات الرديئة التي تُفسِد الأخلاق الجيدة. رأَتْ سارّة الصبيّ يَمزَح! تُرَى ماذا يكون الأمر عندما يصير الصبيّ يافعًا ثم رَجُلاً، ماذا إذا نَمَتْ روح المزاح والهزل وسَخَف الجسد؟
 لقد حَسَمَتْ الأمر بروح الإيمان، وروح عدم قبول الشرّ حتى لو كان صغيرًا، وروح التمييز والإفراز. 
 مِن الأخطاء الشائعة، والتي تؤدِّي بالضرورة إلى أخطار جسيمة، أنّ الآباء والأمّهات يَضحَكون ويتندرّون بأفعال الصغار، وقد تكون فيما يفعله الأطفال – ببراءة الطفولة – أمور مَعِيبة وغير لائقة. ولو أنّ الأباء بكّتوا أولادهم ونهوهم، أو علّموهم وانتهروهم، لكَفّ الأولاد عن ذلك وانصلح مسار حياتهم، ولكن عِوَض التأديب والانذار يَسمَع الطفل الضحك والاستحسان، فيتمادى فيما يفعل ويشبّ على ذلك. ويكبر، ويكبر معه الشر، وتتأصّل فيه العادات السمجة، وتنمو معه حركات الطبيعة غير المهذّبة، وتصير جزءًا لا يتجزّأ من شخصيّته وسلوكه.
 قد يرى البعض في قرار أمّنا سارّة إجحافًا وعدم شَفَقَة، ولكن ماذا إذَا كان الوحي الإلهي يؤكِّد أنّ الربّ نفسَه قال لإبراهيم أبينا: «فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا».

 من جهة أخرى، فإنّ هذا التصرُّف من جهة أمّنا سارة، كان يختص بأمر غاية في الخطورة، هو الوراثة، وراثة البركة، الوعد، والوعد الإلهي لتكميل الخلاص، فكيف يتأتّى أنّ إسحق يصير وارثًا لإبراهيم مادام إسماعيل موجودًا ينازعه الأمر بدون وجه حقّ؟! 
 الأمر لا يتعلّق مُطلَقًا بالمادّيّات وميراثها، كلاّ، بل هو يرمي إلى أبعد وأعمَق من فكر البشر. فإسماعيل الذي وُلِدَ حسب الجسد لا يَرِث ما هو روحيّ ولا يستطيع أن يرثه. أمّا إسحق المولود بالوعد فيَرِث بركة الوعد وبركة النسل الموعود «بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (تك21: 12).

« فَبَكَّرَ إبرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَٱلْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. وَلَمَّا فَرَغَ ٱلْمَاءُ مِنَ ٱلْقِرْبَةِ طَرَحَتِ ٱلْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى ٱلْأَشْجَارِ، وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لِأَنَّهَا قَالَتْ: لَا أَنْظُرُ مَوْتَ ٱلْوَلَدِ. فَجَلَسَتْ مُقَابلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. فَسَمِعَ ٱللهُ صَوْتَ ٱلْغُلَامِ، وَنَادَى مَلَاكُ ٱللهِ هَاجَرَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لَا تَخَافِي، لِأَنَّ ٱللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ ٱلْغُلَامِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي ٱحْمِلِي ٱلْغُلَامَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لِأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً. وَفَتَحَ ٱللهُ عَيْنَيْهَا فَأبصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلَأَتِ ٱلْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ ٱلْغُلَامَ. وَكَانَ ٱللهُ مَعَ ٱلْغُلَامِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (تك21: 14–21).

 لم يكن ممكنًا أن يتصرّف أبونا إبراهيم هكذا ما لم يسمع كلمة من الله، وهو إذ سمع أَسلَم ذاته لطاعة الكلمة كعادتِهِ، وهو إذ صرفها لم يصرفها فارغة، بل زوّدها بخبزٍ وماءٍ واستودعها بيد الله المعتني بالخليقة كلّها، حتى حيوان البَرّ ووحوش البرّيّة يعولها. وهكذا إذ فرغَتْ مِن هاجر معونة البشر من خبز وماء، امتدّتْ إليها يدُ المعونة الإلهية تعولها وتربِّي طفلَها، حتى لو كان جسديًّا، فالله مُنعِم حتّى على غير الشاكرين، فإنّه يُشرِق شمسَهُ على الأبرار والأشرار. 

 فإنْ كان إسماعيل ابنًا بحسب الجسد، فلا يُحرَم من نِعَم الجسد والعطايا الجسدانيّة، لأنّ الله يعول الكلّ وينمّيهم، وحياة الجسد ونموّه، وكثرة النسل وازدياده، هذه كلّها بركات وإحسانات، وإن كانت تُعتَبَر وقتيّة وزمنيّة أو مادّيّة، فإنّها لا تزال محسوبة من فيض إحسانات الله وبركاته، لأنّه لو تخلَّتْ النعمة عن عطائها لهَلَكَ كلّ ذي جسد، ولعَدِمَ الإنسانُ القدرةَ على الحياة نهائيًّا. 

(يُتَّبَع)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك

إعلان1
إعلان2
إعلان3