-2-
* أرواح الأبـــــرار:
على أنّ ما سَجّل التاريخ من مؤازرة أرواح الصدّيقين للأبرار، الذين يأتي وقت انطلاقهم من العالم شيء لا يُحصى، فالقديس العظيم أنبا أنطونيوس والقديس مقاريوس الكبير وآباء الرهبنة العظام، كانوا خير سند لخلفائهم في وقت انطلاقهم، فرأوهم يحيطون بفراشهم، ويزفّون موكب انطلاقهم، حينما تحمل الملائكة أرواحهم الطاهرة، ليَصعَدوا بها إلى السماء. والشهداء الأبرار مارجرجس وأبو سيفين ومارمينا وغيرهم من الأبطال، وُجِدوا مؤازِرين لرفقائهم في الشهادة، فسندوا جهادَهم بقوّة إلهيّة حتّى أكملوا شهادتهم.
بل أنّ رئيس الملائكة ميخائيل، له باع كبير في صراع الشيطان، الذي يحاول جاهدًا في اللحظات الأخيرة أن يزرع شكوكه، ويكثِّف حربه مُظهِرًا الخطايا والضعفات، ومُذَكِّرًا الإنسان بجهل الصِّبا وخطايا الشباب وكلّ ما كان مَخفِيًّا.. ورغم أعمال التوبة، والحصول على الغفران بدم المسيح، وغسل الضمير بدموع التوبة وصِدق مواعيد الله. ولكنّه الكذّاب إذ يُظهر أمام النفس الديون التي كانت عليها، والصكوك التي كانت ضدّها، ولو أنّها مدفوعة تمامًا، ولو أنّ المسيح يكون قد محاها بدم صليبه. ولكنّ الشيطان كذّاب وأبو الكذّاب. فلذلك تشدّدَ الآباء والأبرار برؤى القدّيسين، واطمأنّوا بحماية رئيس الملائكة الجليل، وغلبوا العدو.
* تسليــم الروح بيــد الـــرب:
إنّ التعبير الذي استلمته الكنيسة من فم الربّ يسوع عندما أسلَمَ الروح على الصليب غُفرانًا لكلّ العالم. قال للآب: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو23: 46). وقد صار هذا القول العجيب في فم الأبرار، وهم يرقدون في المسيح غير منفصلين عنه. فإن كُنّا «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أع17: 28)، كذلك أيضاً «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رو14: 7، 8). فإن كانت الحياة في الجسد محسوبة جملة وتفصيلاً أنّها للربّ، فحتّى موت الجسد يُحسَب لحساب المسيح. لذلك فإنّ موت الأبرار فيه من العزاء ما يغلِب سطوة الموت وخوف الموت ورعبته، لأنّهم في الواقع يستودعون أرواحهم في يد أبيهم كطفلٍ يريد أن ينام، فيضع رأسه على كتف أبيه، في قمّة السلام والطمأنينة وراحة القلب، لذلك أيضًا يُحسَب أنّ الأبرار يدخلون إلى الراحة.
«سأترك العالم غيرَ آسفٍ عليه» هكذا قال لى أبونا متّى المسكين، نيّح الله نفسه، الذي كان بنعمة المسيح قد تحرّر من كلّ ما يربطه بالأرض وتراب الأرض والناس ومجد الناس. وقال لى: «أنّه لا يلزمني شي مِنه ولا اشتهي أن آخذ شيئًا ولا يوجَد ما يربطني به أيّ نوعٍ من الرباطات».
هكذا تحقّق رغم فارق القرون من الأزمان قول القديس أغسطينوس الذي قال: «وضعتُ قدميّ على قِمّة هذا العالم حينما أصبحت لا أخاف شيئًا ولا أشتهي شيئًا مِمّا فيه». يقول المرنم: «حَلَلْتَ (قطعتَ) قُيُودِي. فَلَكَ أَذْبَحُ ذَبِيحَةَ حَمْدٍ (التسبيح)» (مز116: 16، 17).
إنّ الخروج من الجسد يُعَدّ بالنسبة لأولاد الله، آخِر القيود التي تنقطِع، لتنال كمال حرّيّة مجد أولاد الله. يعيش الإنسان في المسيح في اختبار الحرّيّة، التي حرّرنا المسيح بها، ويجاهد ألاّ يرتبك بنير عبودية مَدى الحياة، لأنّ طبيعة الإنسان الضعيفة مستهدَفَة دائمًا للعبودية، بسبب السقوط الأول.. فما أسهل أن يسقط الإنسان مثلاً في الادمان والعبودية لأشياءٍ لا حصرَ لها. ولكنّ المجاهد المسيحي حريص على التمسُّك بحرّيّته في المسيح، حتى لحظة خروجه من هذا العالم.. عالمًا أنّ العبد ليس له نصيب في ميراث البنين، الذي هو الملكوت الأبدي.
* الانطلاق:
«الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ» (لو2: 29). هذه صلاة سمعان الشيخ الكاهن، الذي عايَنَ خلاص الله في وَجه يسوع، عندما حمله على ذراعيه، وهو قد أقبلَ بالرّوح إلى الهيكل بعد سنوات انتظار، كانت قد طالت عليه جدًّا. وقد أحسّ بإحساس روحي عميق أنّه ظلّ في الجسد كلّ هذه السنين، كَمَنْ حُكِمَ عليه مسجونًا فيه. فصارت طلبته الأولى مِن المخلِّص أن يطلقه بسلام من سجن الجسد، ليطير كما بجناحي حمامة ويأتي إلى الله كقول المرنم.
وقد ورثَتْ الكنيسة هذه الصلاة النقيّة والطلبة الطاهرة، واستودعتها كذخيرة لكلّ المؤمنين، يتلونها في الصلاة مساء كلّ نهار قبل أن يستودعوا أجسادهم للنوم، الذي هو بمثابة الموت الصغير، حيث يرتخي الجسد بشِبه الموت، وتصير جميع أعضائه وغرائزه في سُبَات.
ما أجمل تدبير الكنيسة هذا، حينما تضَع الغايّة أمام الإنسان كلّ يوم، لكي يسعَى جاهدًا للبلوغ إليها، غير واضعٍ آماله في زوال الدنيا، وغير مؤمِّلٍ في شيء زمني، مادام الزمن يأتي إلى النهاية، كمثل ما يحيا كلّ يوم.. فالصباح المُشرِق يعقبه الليل المظلم، وهكذا يدرِك أنّه غريب كسائر آبائه، لذلك يطلب أن يبلغ إلى الوطن السمائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك