الرؤى والأحلام
-1-
غُلالة الجسد كثيفة تَصْعُب الرؤيا من خلالها، حتّى لأعاظم القدّيسين.. كقول الرسول: «نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا – وطالما - وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ... نُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ» (2كو5: 6–8)، فالآن نحن ننظُر إلى الأمور السماويّة كما في مِرآة كما في لُغز، «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ» (1كو13: 12). ولكنّنا نتوقّع بالصبر والرجاء استِعلان مجد بنوّتنا لله.. لأنّنا الآن نحن أبناء الله، ولَم يَظهر بعد ما سنكون، لأنّ بنوّتنا لله سِرِّيَّة مستورة بغطاء الجسد الذي نلبسه، الذي ورثناه من آدم الجسدي أبي جنسنا.
أمّا ما ورثناه من طبيعة جديدة وخليقة جديدة في المسيح يسوع، آدم الثاني، فسيُستعلَن في حينِهِ، ويَظهر في مجد مجيئه لأنّنا «سنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يو3: 2).
التعلُّق بالسماويات يجذب روح الإنسان بأشواق لا يُعبَّر عنها.. فيظلّ الإنسان طوال أيامه منجذِبًا، بانتظار العبور إلى أرض ميعاده، حيث فَرَح اللُّقيا مع الحبيب، وحيث يكون الكنز هناك يكون القلب. لقد كان حنين القدّيسين إلى السماء حقيقيًّا، وشوقهم كان يعذّبهم كلّ يوم وهم منجذبون نحو الوطن، حيث مجد القديسين الذين سبقوهم إلى هناك، وهُم في حال انتظار الوصول.
فلما قربَتْ أيّام غربتهم من النهاية، وكانت أجسادهم تنحلّ.. انفتحتْ لهم السماء، ونظروا بالرؤيا من خلال الجسد الذي بدأ يتمزّق كغلالة كثيفة، تستطيع أن ترى منها شيئًا في حال تَفَتُّق أنسجتها، فتَمتّعوا في تلك الأحوال بالنظر إلى ما لا يمكن أن تراه العين.. ونالوا العربون كمقدّمة لكمال التنعُّم، وكتعزية عمّا يعانيه الإنسان وهو يحتضر في ساعاته الأخيرة.. فتسمح النعمة أن تفتَح أمامهم طاقات السماء، فيروا المجد الأسنَى، والفرح الذي لا يسوغ لإنسان أن يصفه أو يتحدّث عنه.
فكثير من القدّيسين سمع أصوات التسبيح السمائي ونغم الملائكة بأذانهم البشرية، وكثير منهم عاين المجد والنور الذي لا يُدنَى مِنه. فكان وهُم قد وصلوا إلى حافّة الميناء.. وحدود كورة الأحياء.. أنّ روائح أرض الميعاد ونسيم المَرسَى السمائي هَبّ عليهم، ليَنعَموا بِما وصلوا إليه بجهادات الصلاة والسهر والصبر والانتظار، وحِفظ النفس والجسد والروح في القداسة، والثقة بمواعيد الله.. هذا هو ميراث القديسين.
أرواح الأبرار تسبق بالرؤيا قبل انحلال الجسد، لتعاين مواضع القديسين في السماء، كاستطلاع روحي لِما سيكون، لأجل العزاء في تَرك الأحباء، والارتباطات الروحيّة التي تستوجب وجود الإنسان بين من ارتبط بهم في المسيح.
قال القديس بولس الرسول: «أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ»، من أجل ذلك قال: «أنا مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ» (في1: 23، 24) ولكن شهوة انطلاقه كانت تتأجّج في قلبه كلّ يوم.
❇️ مؤازرة أمّنا السيّدة العذراء:
العذراء أمّنا الشفيعة الأمينة لجنسنا، الناظرة إلينا من المساكن العلوية، كأمّ تنتظر كمال خلاصنا، ووصولنا بسلام إلى ميناء الخلاص. مؤازرتها وشفاعتها تسندنا عند كمال مشوارنا كما تُعلِّمنا الكنيسة المقدّسة. نقول في صلاة الغروب: «عند مفارقة نفسي من جسدي احضري عندي، ولمؤامرة الأعداء اهزمي، ولأبواب الجحيم اغلقي».
فائق عن الوصف هذا الأمر، أن تؤازِر العذراء والأم الجهاد الأخير لخروج النَّفْس من ضيقة هذا العالم، وتجاهد عنّا قوّات الظلمة، التي تحاول جاهدةً أن تكسب جولة أخيرة، وتُخَيِّب رجاء النفس في الخلاص الذي صنعه لنا ابنها وإلهها. وشفاعتها دائمًا مقبولة، ودالّتها مَن يستطيع أن يصفِها.
كان أبونا بيشوي كامل في أيّام مرضِهِ يضع أمامه أيقونتها ينظر إليها كلّ حين، حتّى حين كان يعتصره الألم فلا يستطيع الصلاة، كان يكتفي بأن يُركِّز نظره عليها، يستشفِع بذات الشفاعات، معدن الطهر والجود والبركات. إلى أن استودع روحه الطاهرة في يد الربّ الذي أحبّه، مستندًا على صدر الأم الحنون، التى تَعَزَّى بعاطفة الأمومة الفائقة كلّ مَن صار لها ابنًا بالحقّ، وبالتصاقه بابنها الذي هو الحقّ والحياة.
(يُتّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك