2020/07/30

الـــعدوّ الأخير



 


                              
- 3 -

* يكلِّل قديسيه بالكرامة:

 قال الربّ: «أُكْرِمُ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي» (1صم2: 39). وقال للعبد الذي تاجَرَ وربح في الوزنات التي أُعطِيَت له: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت25: 21). ويقول الملك للخراف الناطقة الواقفة عن يمينه، في يوم مجيئه وظهور ملكوته: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت25: 34).
 إذن الحياة الأبدية مُعَبَّر عنها بالفرح الدائم والمجد المُفاض من الله. وقد وعد الربّ أحباءه بالأكل من المن المُخفَى، وعشاء ابن الملك أو عشاء الخروف.

 ملكوت الله كما نعرف أنّه ليس أكلاً وشربًا بل برّ وسلام. فأوصاف المجد أو الفرح أو الثياب أو الأكل.. كلّها لا تَمُتّ إلى المادة بِصِلة. لذلك لا يسوغ لإنسان أن يُدرِك طبيعة المجد السماوي، أو الفرح السماوي، أو السلام السماوي، إلاّ الذين ذاقوا عربون الروح.
 صحيح أنّنا نقول إنّه مجدٌ.. ولكن أيّ مجدٍ هو هذا؟ نحن عرفنا مجد الأرض، ومجد ملوك الأرض، ومجد أغنياء الأرض، ومجد أصحاب الرُّتَب والمراكز، ومجد الذين مجَّدهم العالم.. 
أمّا مجد السماء فهو شيء آخر.. لفظ المجد يُعَبِّر عنه ليُقرِّب لذهننا الأمر. أمّا في الحقيقة، فهو مجدٌ ليس من هذا العالم، ولم تره عين إنسان ولا خطر على بال الناس.

 وهكذا الفرح.. حين يقول الرب: «اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».. فمَن كان له هذا النصيب الإلهي فإنّه في الحال يصير فيه ويدخل إليه ويتنعّم به. ولا يقدِر أحدٌ أن يصِف طبيعة هذا الفرح، إنّه يختلِف عن كلّ الأفراح التي عِشناها بالجسد. ولكن يُقال أنّه فرحٌ، فقط للتعبير عنه، بينما يعجز فكر الإنسان عن إدراك كماله، إنه «فَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ» كقول الرسول (1بط1: 8).

* مفارقة النفس من الجسد:

 هذه الساعة الحاسمة، وهي كمال وجودنا على الأرض.. قَلَّ مَن يتفَكَّر فيها، أو أن يعمل حسابها، لكي لا يُفاجَأ بأن تكون الأمور على غير ما يريد. وشَتَّان بين إنسان مستعدّ ومُهيَّأ للخروج من الجسد وملاقاة المسيح.. وبين مَن تأتيه الساعة على غير انتظار، كالمَخَاض للحُبلى.. فلا ينجو.
 عاش الآباء القدّيسون في حياة التأهُّب والاستعداد مدى الحياة. وكانوا في انتظار لحظة انطلاقهم على أحَرّ من الجمر. لم يكونوا يسيرون نحو المجهول.. لذلك هرب عنهم الخوف والرعب.

 إنّ الموت أمر مخيف.. وعند البعض مثل الكابوس الرهيب، أو الفخ الذي يصطاد، وهو يُنشِئ في النفس عَتمَةً ورعبَةً وبؤسًا شديدًا ويأسًا.. وتُظلِم الدنيا في داخل الإنسان.. هكذا في كثير من الأحيان يشعر الذين يكونون محيطين بفراش مَن يفارق الحياة. إنّها فِعلاً لحظات رهيبة، فيها تختلط في النفس أحاسيس ومشاعر، لا حصرَ لها مِن فُقدَان ونهاية وإحساس بالمجهول، وتَكثُر الأسئلة المُحَيِّرة.. ويبكي الإنسان، ولا يريد أن يتكلّم ولا يقدر أن يسمَع.. «وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رو8: 37).
 فإنّ البعض بحسب ضعف الطبيعة البشرية والإنسان العتيق، يجوز في مثل هذه، فإنّه بالإيمان بمَن غلب الموت وكسر شوكته، يستطيع أن يواجه الموت، إن كان في أحبّاء أو في نفسه.. فإن كان الموتُ مَلَكَ على جسد الإنسان واستعبده بالخوف، فإنّ الحياة في المسيح والإيمان بالقيامة، جعل المسيح يملك على قلوبنا بالسلام. فالتمسُّك بالحياة في المسيح هو هو التمسُّك بالقيامة، حيث يكون الموت قد سقط مَقهورًا أمام نور القيامة ومجدِها. 
    فإن أسلمنا أنفسنا للإحساس بالخوف من الموت، نكون كأنّنا تخلّينا بإرادتنا عن قوّة القيامة العاملة فينا. فإن كان الخوف من الموت بسبب الخطيّة، فالثقة والسلام هما ثمرة القيامة والحياة في المسيح. وإن كانت الخطيّة قد مَلَكَتْ في الماضي.. فالحاضر مُشرِق بنور قيامة الربّ «الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2كو4: 6).

 الأمثلة بلا حصر مِن الذين سبقونا، وجازوا الموتَ بلا رعبة، بل بثِقة المتمسّكين بالقيامة. تأمَّل ملايين الشهداء.. لم يخشوا الموت ولا العذاب، بل في تهليلٍ وفرحٍ انتصروا للقيامة.. وملايين النساك، قبلوا أعمال النسك والإماتة كعربون لقبول الموت، بل غلبوا بحياتهم كلّ مفاعيل الموت وعَبَروا بلا أدنى خوف. بل ملايين بلا عدد من الذين سلكوا في العالم، ولكن نور قيامة المسيح لم تنطفِئ شعلته، وهُم في مشاغل العالم.. بل حملوا شعلة القيامة، وشهدوا أنّهم غلبوا الموت الذي في العالم الذي وُضِع في الشرّير. 
وإن كانت أجرة الخطيّة هي موت، ولكن هبة الله هي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا. وإن كان الموت اجتاز إلينا عبر آدم في جسم بشريّتنا، فبالأولى اجتازت الحياة إلينا في المسيح يسوع ربنا. لأنّ اقتدار الحياة أقوى بما لا يُقَاس من سطوة الموت.
 إذن حينما نُسَلِّم أجسادنا للموت.. يكون هذا هو تكميل عمل إماتة الشهوات، وإبطال قوّة الجذب نحو الأرض والعالم.. وتكميل للصليب الذي به قد صُلب العالم لنا ونحن للعالم.. وموت الجسد هو آخر فصول الجهاد الروحي، حين نلفظ آخر نفس نكون قد استودعنا أرواحنا المتحدّة بالمسيح، والقائمة معه، في يديّ الآب السماوي، كغالبين مع المسيح، ومنتصرين على الجسد والعالم، لحساب الذي غَلَبَ العالم. 

(يُتَّبَع)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك

إعلان1
إعلان2
إعلان3