- 6 -
التعــزيـات الأخيــرة
اتّسمت حياة معظم الآباء القدّيسين بالإعلانات الإلهيّة، من رُؤى روحيّة وإعلانات سماويّة، قبل انطلاقهم من هذا العالم. وذلك لأنّهم قضوا حياتهم سالكين بالإيمان.. و«الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عب11: 1).. قِيل عن قِدّيسي العهد القديم أنّهم رأوا المواعيد من بعيد، وحيَّوْها، وأقرّوا أنّهم غرباء ونزلاء. فكان إيمانهم هو عيون الرؤيا الداخليّة، التي يسيرون بها نحو جعالة الله العليا في السماوات
وكان الجسد الكثيف هو الذي يحجب الرؤيا، لأنّه مُعتم بطبيعته. فكانوا بإيمانهم يسلكون غير ناظرين إلى ما يُرَى بل إلى ما لا يُرَى. وكانوا بصبرٍ كثير، ورجاءٍ يقِظٍ، ينظرون رؤيا الاستعلان، حين يخرجون من الجسد، ليصيروا وجهًا لوجه مع الحقّ؛ الذي هو شخص الحبيب. في ذلك الوقت سيبطُل الإيمان لأنّهم يَدخُلون إلى الاستعلان، فيكون التصديق القلبي قد قادهم إلى الحقّ ذاته، ليَرَوْه كما هو
وفي أيّامهم الأخيرة في الجسد، يكون الجسد كمثل ثوبٍ بدأ يتهرّأ ويَبلَى ويتمزّق.. فصارَت أرواحهم المُكَمَّلة تنظر في تلك الساعات مِن وراء هذا الذي يتمزّق، فتبدو من ورائه المناظر التي لا تراها عين البشر. فكثير منهم رأى السموات مفتوحةً، وكثيرون رأوا ملائكةً وشهداء، وكثيرون أُنعِمَ عليهم برؤية الأم الطاهرة تؤازر وتُعزِّي. بل وكثيرون منهم رأوا ربّ المجد ذاته، فعزّاهم وقوّاهم، وأعلمهم بنصيبهم الصالح
وفي كثير من قصص الشهداء، الذين ذاقوا ألوان العذاب محبةً في الملك المسيح، كان الربّ يرسل لهم الملاك ميخائيل رئيس جند الربّ، فيلمس جراحاتهم ويشفيها، ويعطيهم السلام ويعِدهم بالجوائز المُعَدَّة لهم من قِبَل الربّ
💠
ورغم آلام الفراق التي تعتصِر النفس، حين نرى أحبّاءنا يتركون العالم، وينطلقون إلى المجد.. فإنّ في داخل القلب المنكسِر توجد ينابيع عزاء، كلّما تطلّعنا إلى النصيب الفاخر الذي تَحَصَّلوا عليه جزاءَ ثباتِهِم على الإيمان، وحِفظ وصايا المسيح، وحياة التقوى والبِرّ، التي تشهد لهم أنّهم كانوا أولاد الله
💠
أذكُرُ أحدَ الأحبّاء، كان الربّ قد سمح بانتقال وحيده وهو في ريعان الشباب ابن 18 سنة في أبريل سنة 1968.. وكانت أحزان هذا الوالد وزوجته وبيته وباقي أسرته، قد بلغت حَدًّا يعلو الوصف. وقد احتضن أبونا بيشوي كامل، نيَّح الله نفسه، هذه الأسرة، رغم أنّها لم تكُن من الأُسَر القريبة في رعاية كنيسة مار جرجس باسبورتنج.. ولكن بسبب الظروف القاسية، لمّا سمع بمرض الشاب بالسرطان، وكان يومها غير منتشر بالصورة التي بلغ إليها في هذه الأيّام.. وكان ميئوسًا من العلاج تمامًا.. فلمّا سمع أبونا زار الشاب بالمستشفى الأميري بالإسكندرية، قبل انتقاله بشهر أو أقلّ. ولم تكُن أسرته قد تعرّفت إلى أبينا بيشوي بعد، وبعدما جلس معهم وصلّى لهم، طلب أن يجلس مع الشابّ بمفرده. فخرج الجميع، وبقِيَ أبونا بيشوي ساعة كاملة مع الشابّ، الذي كان يراه لأوّل مرّة وهو على سرير مرضه.
وبعد أن انتقل الشابّ ورقد في الربّ، وصارت تربطنا بهذه الأسرة علاقات قويّة من المحبة والصلاة. وصار هذا البيت لنا كبيت عنيا.. نَخلدُ إليه بعد عناء الخدمة، فنجد تعزية ومحبّة
وقد تحوّلت حجرة هذا الشاب إلى حجرة للصلاة، وقد خصّصها الرجل وزوجته للصلاة فقط
بعد سنوات كنت أجلس مع هذا الأب الحبيب.. وحكى لي عن الأيام الأولى التي عاشها في قصّة مرض وحيده وانتقاله.. قال لم أكن أعرف أبونا بيشوي.. فلما زارنا في المستشفى، ثم جلس مع ابني مدّة ساعة ومضى، اندهشتُ لأنّي وجدتُ ابني قد تغيّر تمامًا. لم يكُن الولد متديّنًا ملتصقًا بالكنيسة، وله حياة روحيّة بالمعنى، ولم يكن كثير القراءة في الكتاب المقدس وصلوات المزامير. لكنّه كان شابًّا في مقتبَل العُمر، وبسبب أنّنا ميسورو الحال.. فكان مُدَلّلاً.. مؤدّباً مع الجميع، قليل الخلطة بالناس. وكنّا نذهب إلى الكنيسة معظم أيّام الآحاد.. نحضر القداس الأول فنتناول وننصرف.. ولأنّي أعرف ابني جيّدًا.. أعرف طباعه وإمكانيّاته وقامته في الروح.. كلّ هذا لم يكُن خافيًا عليَّ. وكُنّا في حال مرضِهِ في كارثة وحزن، ودَمْع لا يكفّ النهار ولا الليل.. وكُنّا نصلِّي الليل والنهار ونطلب معجزة الشفاء. وكان ابني يتابع كلّ هذا. وكان يصلِّي هو أيضًا لأجل ذات المعجزة
فلمّا انصرف أبونا بيشوي، ومن ساعتها وجدتُ ابني متغيِّرًا تمامًا.. لم يكُن يعارضنا في الصلاة من أجل معجزة. ولكنّه كان كَمَنْ ثبَّت وجهَه نحو الانطلاق. لم يَعُدْ يتكلّم معنا كثيرًا.. كان كثير الصمت وكثير الصلاة. كلامه صار مختلفًا، وشخصيّته ومفاهيمه كلّها صارت متغيرة.
أهكذا «يُعْطِي اللهُ الرُّوحَ بِدون كَيْل وَلاَ يُعَيِّرُ» (يو3: 34)؟
أهكذا ممكن أن يمتلئ الإنسان
هكذا كنت متحيرًا من أمري!!
وقال لي هذا الأبُ المبارك بعد عبور السنوات.. إنّني أتذكّر هذه الأيام الأولى، ورغم القسوة الشديدة للظروف، والحزن الذي اعتصَرَ قلبي.. أذكُر هذه الأيام التي فيها سكَبَ الربُّ عليَّ من روح العزاء وطِيبِ القلب.. صدِّقني إنّني أذكر هذه الأيّام بالخير
عجيب هو الله الذي يحتضن النفس المجروحة، ويضمِّد جراحاتها بجروحه؛ التي جُرِحَ بها على الصليب.
(يُتَّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك