2020/08/08

الـــعدوّ الأخير



                        


- 8 -


مِن الأسئلة الشائعة التي تخطر على بال الكثيرين عندما ينتقل أحد أحبائهم: 


هل سيعرفون بعضهم هناك؟


وهل هم عالمون الآن بأحوالنا؟


في الواقع، إنّ معرفتنا بهذه الأمور قليلة. ولكن ما يمكن أن نعرفه يكون من خلال المكتوب؛ فالمَثَل الذي قاله الربّ عن الغنيّ ولعازر يكشف لنا، كيف أنّ الغنيّ تَعَرَّف على لعازر، وتعرّف على أبينا إبراهيم.. رغم شاسع المسافة بينهم، وأيضًا فارق الزمن الكبير بين الغنيّ وإبراهيم. 


هنا المعرفة مُفَاضَة من الله في الأبديّة. على هذا فالذين يُحسَبون مستحقّين للحياة الأبدية، سوف لا تنقصهم المعرفة من جهة كلّ شيء وكلّ أحد. فسيكون الله هو الكل في الكل.. وسيربط الجميع برباط الروح في الكمال. صحيح أنّه لا توجَد قرابات جسديّة ولا رباطات جسديّة، فرباط الروح هو الذي يجمع الأرواح المُكَمَّلَة.


نحن هنا يربطنا الجسد والذات (الأنا)، وحولها تدور وتتعلّق كلّ الأمور. فهذا أبي وهذه أمي وهذا أخي وأختي.. وكلّها تخصّ الأنا. والرِّباط هو رباط اللحم والدم.. والمحبّة تستند في أصولها على رباط الجسد. 


أمّا في السماء فالمحبّة هي رِباط الكمال كقول الرسول. وهناك تبلُغ المحبّة إلى الكمال، ففي السماء لا يوجَد نقص، بل محبّة المسيح الفائقة المعرفة. فارتباطنا بعضنا ببعض سيبلغ إلى حد الكمال بعيدًا عن الجسد. 

«اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ» (1يو4: 16). هي أعظم من الإيمان والرجاء.. وفي السماء الإيمان يبطُل، والرجاء ينتهي، وتبقى المحبّة في كمالها الأبدي الذي لا يُعبَّر عنه. فسنحبّ بعضنا بعضًا كأعضاء الجسد الواحد في المسيح، وسنصير أقاربَ، وأهلَ بيت الله. 


إذن سنرتقي في المحبّة، وفي القرابة، وفي العاطفة والمشاعر. هناك الحبّ الصافي الإلهي، بعيدًا عن الأنانية وشوائب الجسد والذات. وقتها سنعرف بعضُنا البعض معرفةً على مستوى أعلى سماوي. ووقتها سيغمرنا الحبّ الإلهي الذي أحبّنا به المسيح.


+ جسدنا الترابي فيه نسمة حياة، يحيا بالنفس التي أخذها من الله، والنفس كائنة في الدم كقول الكتاب: نفس الحيوان في دمه (لا17: 11). فحينما يُذبَح تنتهي نفسُهُ، ويبقَى لحم الحيوان. أمّا نفس الإنسان فهي نفس عاقلة ناطقة، لا تَفنَى بخروجها من الجسد. عند موت الإنسان تنفصل نفسُه عن جسدِه. والنفس العاقلة متّحدة بالروح، وهي كيانُنا الذي حَصَل على التجديد والتقديس والولادة الجديدة.. هذا الكيان لا يموت، إذ هو نِتاج قيامة المسيح من الأموات.. «أنتم الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ» (غل3: 27).

وفي القيامة يقوم الجسد بلا فساد، فبَدَلاً من أن كان يحيا بالدم الذي يجري في عروقه.. فسيقوم جسدٌ غير ماديّ، يحيا بالروح، والروح يحيا إلى الأبد، فلا يموت بعد.

الجسد المادي ضعيف، الموت يعمل فيه.. مملوء بالضعف والعجز وهو بالنهاية راجِع إلى التراب الذي أُخِذَ منه.

الجسد الروحاني ليس فيه عجز ولا نقص ولا مرض ولا موت.. «كَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ (الذي من التراب)، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ (الذي من السماء)» (1كو15: 49).

إمكانيّات الجسد المادي محدودة، أمّا إمكانيّات الجسد الروحاني ففائقة تليق بالسماء.


* الموضع الذى هرب منه الحزن ووجع القلب:


 في السماء لا تذكار للحُزن والألم، بل الفرح الأبدي، الذي لا يشوبه كَدَر.

نحن هنا في عالم الشقاء، حيث الألم والأنين والتعب وعرق الجبين.. هناك، قِيلَ يستريحون من أتعابهم، فلا يوجد تذكار للألم ولا تذكار للشرور.. الحزن لا يوجد فيما بعد.. بل فرح أبدي بالربّ.

 فهل يفكّر القدّيسون الشهداء في آلام الاضطهاد، وبشاعة القتل والتنكيل؟ حاشا.. بل بهاء مجدهم في السماء، وأكاليل الغلبة والانتصار، وفرح الحياة الأبدية يغمرهم إلى أبد الأبدين. فإذ كانوا وهم على الأرض قد استهانوا بالآلام، وأسلموا نفوسهم طواعيةً قربانًا لله.. فماذا يكون مجدهم مِن الذي شهدوا له بالحياة؟ وإن كانوا قد غَفَروا للذين آذوهم بالعذابات، فهل يذكرون في السماء وجعًا أو حزنًا؟


 هكذا يكون فرح الأبرار الذي وعد به الرب قائلاً: «اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت25: 21).


(يُتَّبَع)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك

إعلان1
إعلان2
إعلان3