- 5 -
نهايــة الــزائـل
«إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ» (2كو5: 1).
«لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا» (2كو4: 7).
«وَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ» (2تي4: 6)... «خَلْع مَسْكَنِي قَرِيبٌ» (2بط1: 14).
«لاَ يَرِثُ الْفَاسِدَ عَدَمَ الْفَسَادِ.... وَلا هذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ» (1كو15: 53).
بهذه الأوصاف الإلهيّة شَرَحَ الروح الأمرَ الذي سيصير إليه الجسد.. فهو من ترابٍ وإلى ترابٍ يعود.. ويُودِّع الإنسان جسدَه، مهما كان شأن الجسد من جمال أو كمال أو هيئة أو شكل.. ومهما حَصَّل الجسد من كرامة أو رفاهية أو عناية مُكَثّفة.. سيتساوى تمامًا مع كلّ جسدٍ آخَر عاش في فاقةٍ أو إهمال أو أمراض أو عاهات أو جوع أو عُري.. سيتساوَى مصير الأجساد كلّها في تراب القبور. ستسكن كلّ حركات الجسد، يَكُفّ النظر والسمع واللمس وكلّ حركة.. وستموت مع الجسد الشهوات والأطماع والحركة والإحساس.. كلّ شيء سينتهي في لحظة.
فمَن جَعلَ رجاءه واتكاله على الجسد، فإنّه يسقط في يأسٍ شديد، وخيبة أمل لانهائية. ومَن جعل كنزَه في الجسد يزرع للجسد كلّ يومٍ. فمِنَ الجسد سيحصد فسادًا. ومَن عَبَدَ الجسد وعاشَ يُعَلِّله بالعُلَلِ، وجَعَلَ الجسد محور حياته، له يعيش وفيه يفكر وبه يعتني، وليس له رجاء في شيء سواه.. فماذا عساه أن يَفعَل حين يأتي الجسد إلى النهاية المحتومة؟
يا للعَجَب حين نتأمّل الآباء القدّيسين، الذين عاشوا بالرّوح وللروح.. كيف أهملوا أمر أجسادهم، وعاملوا الجسد بخشونة الملبس ونسك المأكل والأسهار والأصوام، وكأنّهم كانوا يَسكُنُون أجسادهم بالإيجار، فلم يعطوا الجسد سوى الكفاف في كلّ شيء. ولكن عندما فارقوا أجسادهم بالموت، فإذا الأجساد هذه تفوح مِنها روائح طِيب، وتَجري منها آيات وعجائب وأشفية. بينما أجساد الناس المرفّهة والمُعتنَى بها بالمأكل والملذّات وكثرة التدليل.. عندما تموت تصير في نتانة رهيبة، وينقلب جمالها إلى بشاعة، يهرب منها كلّ مَن يقترب ليراها.
فلنتبصّر في الأمر جيّدًا، فالذين بحسب الظاهر كأنّهم يهدمون، صاروا هم في الحقيقة يبنون. والذين اهتموا بالجسد كأنّهم يبنون، ظهرت الحقيقة أنّهم يهدمون.
لذلك حرص القدّيسون على تقديس الجسد، واستخدامه إلى أقصى طاقته لحياة الروح وخدمة الروح وتقديس الروح. وأفنوا أيّامهم يُسخِّرون الجسد للخدمة، في السهر والصوم والصلاة والتقديس.
أَذكُرُ أنّ البابا كيرلس السادس، نيح الله نفسه، كان قد أُصيبَ بجلطةٍ في ساقِهِ قبل نياحته بسنتين. فلمّا سمح له الأطبّاء أن ينزل إلى الكنيسة، كان يجلس على كرسيّه ويضعون له شيئًا يرفع قدمَه عليه.. فكان وهو يطوف الكنيسة المرقسيّة بالأزبكيّة بالبخور، أنْ قال له واحد من المقرّبين، يا سيدنا أشفِق على رِجلِكَ فإنّ الكنيسة كبيرة.. فانتهره البابا قائلاً: يا ابني دَعنَا نستخدمها للخدمة قبل أن نستودعها التراب.. فطالما فيها القدرة على المشي فإنّنا لا نبخل بها على الرب.
هذا هو فكر الآباء.. لقد أدركوا إدراكًا كاملاً أنّ أجسادهم ستنتهي إلى العدم، فصاروا مجتهدين في البذل، وتقديم أجسادهم قربانًا ومحرقةً لذاك الذي بذَلَ ذاته عنهم. ما أبعد هذا الفكر عن أهل العالم الذين يَحسَبون تنعُّمَ يومٍ لذةً.. فهم يعيشون لليوم، وقد أُخفِيَ عن عيونهم أمرَ الغدِ وما بعد اليوم. يعيشون اللحظة الحاضرة وهم سكارَى، بالمجد الزائل واللذّة الزائلة والتنعُّم الوقتي.
إنّ مَن يسلُك بالحكمة الروحيّة، يَعرِفُ يَقينًا أنّ هيئة هذا العالم تزول، وأنّ الذين يستعملون هذا العالم كأنّهم لا يستعملونه. فكلّ ما يخُصّ العالم هو مؤقَّت وبالنتيجة زائل، فمَن يضع رجاءه في هذا الزائل؟
لذلك يصير الإنسان المفتوح العين والذهن، يتاجر في السماويّات ويكنِز كنزَه في السماويّات. الإنسان المسيحي تاجرٌ واعٍ، يُحوِّل كلّ يوم ما يَصِل إليه من مقتنيات الزوال، إلى رصيد حيّ سماوي، حينما يعمل لله، وينظر إلى ما هو فوق، ويهتمّ بما هو فوق.
عينُهُ على رصيده السماوي لكي يزداد كلّ يومٍ، بالبذل والمقايضة، فهو مستعدّ أن يفرِّط في ما هو غال ثمين في أعين الناس، لكي يقتني له كنزًا في السماء. فهو يتنازَل بالإرادة الكاملة عن الكرامة والذّات، ويُنفِق ويُنفَق مجاهدًا، ليس كمَن يلاكِم الهواء، بل يسعى نحو الجعالة العُليا. يركُض في الميدان، مدفوعًا برجاء الإكليل، والميراث الذي لا يَفنَى. يستهين بالتراب وكلّ ما يخصّ التراب، لأنّه يحيا لِمَا هو أفضل من التراب.
الهـذيـذ بالمـوت
يظنّ البعض أنّ الإنسان حينما يتفكّر في الموت يُصَاب باليأس أو الاكتئاب، ويصير بائسًا يائسًا مِن الحياة مُحَطَّمًا، غيرَ راغبٍ في شيء. ويَقتِل فيه هذا الفكرُ الجهادَ والطموحَ، والرغبةَ في الحياة، والدافع للنجاح.
الواقع الروحي هو العكس لذلك تمامًا، فقد حرص الآباء القدّيسون على مدى سنين جهادهم، أن يَفتكِرُوا في الموت، وفى ساعة الموت وخروجهم من الجسد. وكان هذا الفكر بالنسبة لهم إيجابيًّا، قادهم إلى زيادة الجهاد وجدّيّة السلوك بالروح وافتداء الوقت. وظلّوا في نشاط الجهاد وعمل الصلوات والسهر دون كلل. والذين كانوا في الخدمة ظلّوا إلى آخر نَفَس يخدمون بكلّ الجهد، عالِمين أنّ «الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ» (مت24: 13).
القدّيسة سارّة، وهي أحدى القدّيسات المشهورات بالجهاد الروحي، كانت تضع الموت نصب عينيها، ولها قولٌ مشهور: «إنّني عندما أضع قدمي على السلّم لأرفعها إلى الدرجة الأعلى، لا أضمن حياتي في تلك اللحظة.. بل قد يفاجئني الموت في لحظة». وقد جعلَها هذا الفكر في الصحو الروحي واليقظة، التي بها ربّت بناتها في الروح، وارتفعت بهنّ إلى أعلى مراتب القداسة
فنحن لا نفكر في الموت على أنّه كارثة، نحاول أن نتفاداها وأن نفلت منها. ولا على أنّها نهاية أسيفة لحياة الإنسان ونشاطه:
بل هي لحظة لقاء العريس بالعروس..
وساعة الإكليل ونوال الجوائز..
ونهاية للمحاربات ومشاغبات الجسد..
وكمال الجهاد والأتعاب – كمثل الأجير الذي يُسَرّ بانتهاء يومِهِ كقول الكتاب. والدخول إلى التنعُّم بعِشرة الأحبّاء مِن القدّيسين، الذين عاشرناهم بالإيمان، فما أحلى رؤيا الاستعلان.
+ حين قال القديس بولس الرسول: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا» (في1: 23). قالها بكلّ الصدق والإخلاص، لأنّ شهوة السماء كانت متأجّجة في قلبه، ورؤية ما لا يُرَى كانت مُحَقَّقة مُعاشَة.
كان محصورًا بين أن يبقى في الجسد، لأجل بنيان جسد المسيح الذي هو الكنيسة، ودَفع عَجَلَة الإيما،ن والكرازة باسم الذي أحبّه، وامتداد ملكوته.. وارتباطه بأحبّاء، هُم رفاق جهاد وصلوات.. وبين أن ينطلق من رباطات الجسد، وكثرة الحروب، والتَثَقُّل كلّ يومٍ بالخدمة والسعي.
(يُتَّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك