- 4 -
* سـاعة الخـروج:
لابدّ أنّها ساعة رهيبة.. إذا تَفَكَّر الإنسان فيها بطريقة جدّيّة:
أولاً: لأنّها لابد حادثة.
ثانيًا: لأنّها تكون فاصلة، يتحدَّد فيها مصير الإنسان الأبدي.
وقد تَكَلّم كثيرٌ من الآباء القدّيسين بخصوصها. تُرى كيف سيواجِه الإنسان الموت؟ وقد ثبتَ بما لا يَدَع مجالاً للشكّ أن هذه الساعة يكون فيها حصاد السنين، بل وحصاد الحياة كلّها.
وقد حَكَى لى أحد الآباء، وكان نيّح الله نفسه.. يحيا حياة مكرّسة بالكامل للربّ، نفسًا وجسدًا وروحًا، وكان ذا قلب طاهر وحياة نقيّة.. حقًّا كان هذا الآب كملاك الله. وقد انتقل إلى الربّ في الخمسينات من عمره.. قال لي – وقد جاز في مرضٍ قارب فيه الموت – في لحظةٍ شعرتُ أنّ روحي تفارق جسدي، وأنّني سأترك الحياة.. في لحظتها مَرّتْ أمامي كشريط سينمائي كلّ السنين التي عشتها بتفاصيلها: جميع الأيام وجميع الأفعال والأقوال والظروف والملابسات.. كلّ شيء.. كلّ شيء..
ألم يَقُلْ الرب: «إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ» (مت12: 36). والأعمال أليستْ مُسَجَّلة؟ وسيجازي الله كلَّ واحدٍ بحسب أعماله؟
+ لا يوجَد في حياة الإنسان كلّها أصدق من هذه اللحظات، إذ يكون الإنسان في مواجهة الحقّ.. فلا يوجَد مجال للباطل الذي في العالم، مِن كذب وغش أو رياء أو مجاملة، أو محاولة لإخفاء الحقّ، أو اللفّ والدوران، أو تبديل أو تزييف الواقع.. كلّ هذا لا يوجَد له أثر، إذ يكون الإنسان في هذه الساعة، يُنهِي كلّ علاقة له بالعالم.. والعالَم موضوع في الشرّير، ورئيس هذا العالم يسود عليه.
+ وبسبب كثرة الخطايا، وحياة اللهو والسهو والانغماس فيما للعالم، يخاف الإنسان ساعة الموت جدًّا، ويرتعب عند ذكرها، ويتفادَى قدر إمكانه أن يتواجَه معها. وإذا حدث، يحاول الهرب بكلّ وسيلة.
+ ولكن ليس هذا هو الحلّ.. فكلّ هؤلاء يفاجئهم هلاكٌ بَغْتَةً، كالمخاض للحُبلى فلا ينجون.
+ ولكنّ الحَل يكون بالاستعداد، بالتوبة وإرضاء الله وحفظ وصاياه. والسعي في الطريق الضيق، وحَمْل الصليب وعمَل المحبّة والخير.
+ أمّا مِن جِهة القدّيسين الذين أكملوا السعي، ففيها يَغدِق الربّ عليهم من التعزيات ما لا يُعبَّر عنه.. من رؤى وأحلام وصُحبة القدّيسين الذين سبقوهم. وكما قيل أنّ أرواح الأنبياء مُخضَعَة للأنبياء، هكذا تكون أرواح الصدّيقين مُحاطة بجوقات من القدّيسين للمؤازرة..
فكان يَظهَر القدّيس أنطونيوس والقديس مكاريوس مثلاً، لآباء الرهبنة في ساعات انتقالهم.. أو يَظهَر أمير الشهداء والشهيد أبو سيفين والأمير تادرس، لربوات الشهداء لتعزيتهم وقت كمال شهادتهم، لأنّه معروفٌ أنّ أرواح القدّيسين تكون طغمات سمائيّة، كسحابة شهود متآلفة ومتجانسة.. كقبائل، كلّ قبيلة على حِدتِها كوصف المزمور لِمَا كان قديمًا.
لذلك نطلب في الصلاة مؤازرة الأم القدّيسة في صلاة الغروب، التي تُذَكِّرنا دائمًا بغروب حياتنا في الجسد ونقول: «عِنْدَ مُفارقَةِ نَفْسي مِنْ جَسَدي احْضَري عِنْدي... ولأبْوابِ الجَحيمِ أغْلقي، لئلاّ يَبْتَلعوا نَفْسي».
+ القديس اسطفانوس هو باكورة الذين رأوا السموات مفتوحة في ساعة استشهاده، وخروجه من هذا العالم. هذا ما دوّنه الروح في سفر أعمال الرسل الأطهار.
+ ومِمّا لاشكّ فيه، أنّ الذي أكمَلَ سعيَه، وحَمَلَ صليبه، ينتظر هذه اللحظات السعيدة، لكي يستريح من تعب الجهاد، ويدخل إلى الراحة التي ليس بعدها تعب أو صراع.
+ أمّا مِن جهة موت الأشرار، فيكفي ما سجّله الوحي الإلهي عن أحد ملوك بني إسرائيل، أنّه «ذَهَبَ (مات) غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْهِ» (2أخ21: 20).. إذ صنعَ الشرّ في عينيّ الربّ.
فإن كانت شناعة الموت الجسدي وطريقته مؤذية للنفس، فكم يكون «عِقَابًا أَشَرَّ لمَنْ رفض النِّعْمَةِ» (عب10: 29).. هناك يكون البكاء الذي ليس فيه رجاء، وصرير ورعدة الأسنان إلى دهر الدهور. فمِن جِهة الناسّ يقول الوحي: «مات غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْهِ». أمّا مِن جِهة المصير الأبدي، فالغَني الذي قال الرب عنه في المَثَل أنّه مات ودُفِنَ، رَفَعَ عينيه إذ هو في الجحيم يتعذّب، ويتمنّى لو أنّ لعازر المسكين يَعبر إليه، ويبلّ طرف لسانه لأنّه مُعَذَّب، ويتمنّى أيضًا أن لا يأتي أحدٌ من أخوته إلى موضع العذاب هذا.
(يُتَّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك