القربان والتقدمة
-1-
«وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً. مِنْ كُلِّ مَنْ يَحِثُّهُ قَلْبُهُ تَأْخُذُونَ تَقْدِمَتِي. وَهذِهِ هِيَ التَّقْدِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَنُحَاسٌ، وَأَسْمَانْجُونِيٌّ (حجر كريم يشبه الياقوت) وَأُرْجُوَانٌ (لون صباغة يشمل البنفسجي والقرمزي أو الأحمر) وَقِرْمِزٌ (صبغ لونه أحمر قانٍ في لون الدم)، وَبُوصٌ (الكتان النقي)، وَشَعْرُ مِعْزَى، وَجُلُودُ كِبَاشٍ مُحَمَّرَةٌ وَجُلُودُ تُخَسٍ (حيوانات بحرية) وَخَشَبُ سَنْطٍ، وَزَيْتٌ لِلْمَنَارَةِ وَأَطْيَابٌ لِدُهْنِ الْمَسْحَةِ وَلِلْبَخُورِ الْعَطِرِ، وَحِجَارَةُ جَزْعٍ (حجارة كريمة أو زمرد سلقي) وَحِجَارَةُ تَرْصِيعٍ لِلرِّدَاءِ وَالصُّدْرَةِ» (خر25: 1–7).
ولمّا شرع داود في تهيِئة ما يلزم لبناء هيكل الربّ، انتدَبَ هو والشعب وقدّموا كلّ ما يَلزَم بقلب كامل. وقال داود:
«وَالآنَ، يَا إِلهَنَا نَحْمَدُكَ وَنُسَبِّحُ اسْمَكَ الْجَلِيلَ. وَلكِنْ مَنْ أَنَا، وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَنْتَدِبَ هكَذَا؟ لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ. لأَنَّنَا نَحْنُ غُرَبَاءُ أَمَامَكَ، وَنُزَلاَءُ مِثْلُ كُلِّ آبَائِنَا. أَيَّامُنَا كَالظِّلِّ عَلَى الأَرْضِ وَلَيْسَ رَجَاءٌ. أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا، كُلُّ هذِهِ الثَّرْوَةِ الَّتِي هَيَّأْنَاهَا لِنَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا لاسْمِ قُدْسِكَ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ يَدِكَ، وَلَكَ الْكُلُّ. وَقَدْ عَلِمْتُ يَا إِلهِي أَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَحِنُ الْقُلُوبَ وَتُسَرُّ بِالاسْتِقَامَةِ. أَنَا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِي انْتَدَبْتُ بِكُلِّ هذِهِ، وَالآنَ شَعْبُكَ الْمَوْجُودُ هُنَا رَأَيْتُهُ بِفَرَحٍ يَنْتَدِبُ لَكَ. يَا رَبُّ إِلهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ آبَائِنَا، احْفَظْ هذِهِ إِلَى الأَبَدِ فِي تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قُلُوبِ شَعْبِكَ، وَأَعِدَّ قُلُوبَهُمْ نَحْوَكَ» (1أخ29: 13–18).
كانت هذه هي الخطوط العريضة في التقدمة لبناء الخيمة والهيكل فى العهد القديم، ويبدو بوضوح شديد أنّ القلب هو مركز اهتمام الله في هذا الأمر. فالعطيّة المقبولة هي ثمرة قلب مستقيم أمام الله.
❇️ العطاء إذن هو حركة القلب (يحثّه قلبه، أي يحرّكه ويَدفعه).
❇️ التقدمة تُقَدَّم لا عن إجبار أو اضطرار، بل بكامل الحريّة والاختيار. وقد تجاوَز هذا الأمرُ وصيّةَ العُشور التي يَعرِفها كلّ واحد.
هنا في تنصيب الخيمة أو بناء الهيكل، يبدو فيض القلب، أي الحُبّ أن يكون لله مَسكِنًا..
فإن كان مسكنه في القلب، إذن فقد صار كلّ القلب لله. «يَا رَبُّ، أَحْبَبْتُ مَحَلَّ (جمال) بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ» (مز26: 8). لذلك نبعَتْ التقدِمة من قلوب مُحِبّة، أن يكون للرب مسكنًا في وسط شعبه. ومازال هذا الدافع إلى يومنا هذا عميقًا قويًّا في داخل شعبنا، يظهر جليًّا إذا شَرَعْنا في بناء كنيسة للمسيح باسم أحد قدّيسيه. فكثيرون يُعطُون من أعوازهم بسخاء.. الذين أعطوا نفوسهم أولاً للربّ ولقدّيسيه.
❇️ تنوّعت التقدِمة من ذهب أو فضّة أو نحاس.. إلى جلود ماعز وجلود تُخِس إلى خشب إلى خيوط إلى حجارة كريمة.. كلّ واحد بحسب طاقته يعطي، وبحسب ما مَلَكَتْ يده. وهذا يجعل الخيمة أو الهيكل نسيجًا من عطايا كلّ أحد.
التحمَتْ جميع العطايا الفقيرة والغنيّة معًا، كطَحين حبّات القمح المختلفة، لتصنع دقيقًا واحدًا، لنعمل منها قربانة واحدة لله. هكذا انصهرت العطايا لتعمَل سبيكة جميلة هي مسكن الله. وانتقلَتْ المِلكيّات من يد الإنسان إلى يد واهب العطايا.
❇️ ما أجمل قول داود: «لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (1أخ29: 14). واقع الأمر أنّنا دخلنا العالم بلا شيء، وواضح أنّنا سنترك العالم بما فيه. فمِن يد القدير يأخُذ الإنسان من وقت أن وُجِد.. فماذا إذن؟
لو تعمّقنا الأمر، لوجدنا أنّنا من يده نستنشق النَفَس ونستمِد الحياة، فماذا تكون التقدمة؟ ولماذا يشعر الإنسان كأنّه قدّم وضحَّى وأعطى؟ ليت قول داود النبي يوقِظ وينير في الداخل، فنقول معه للربّ: «لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ».
فإن كان هكذا في العهد القديم، وهكذا تعامَل الشعب مع ظلّ السماويات، فماذا نحن عاملون وقد بلَغنا السماوات عينَها. فإن كان ثمّة عطايا اليوم، مازالت تُرى بعين المادة أنّها عطايا ماديّة يقدّمها المؤمنون في الكنيسة. فإن حَكَمنا بالروح، وسلكنا بالروح، لأدركنا أسرار السماويّات.
فإن كانت العطايا قديمًا قُدِّمَتْ لتُبنَى بِها الخيمة والهيكل، وتُزَيَّن وتَكون فيما كانت عليها من مجد وبهاء. فإن عطايا اليوم يجب أن تتفوّق على القديم في المعنى والمبنى. فقد صار الهيكل جسد المسيح ونحن أعضاءه أفرادًا.
فإن رغبت في تقديم مالِكَ لبنيان الجسد وامتداد ملكوت المسيح، فإنّ الأمر يتغيّر تمامًا عن كونه عطايا ماديّة. فأنت تعطي قلبك ونفسك وفكرك وكلّ ما لك.. وما كان لك في حساب المكسَب تحسبه خسارة من أجل معرفة المسيح. بل أنّ التخلِّي والترك لا تحدّه حدود وصايا العشور بحسب الحَرف، بل بغنى الروح يعطِي الإنسان نفسه للربّ. ويُسَر بأن يبذل وينفِق ويُنفَق، واستعداده للعطاء ينمو يومًا فيومًا «إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ الْمَسِيحُ» (أف4: 15).
وبقدر الطاقة بل وفوق الطاقة أيضًا..
ألم يَقُلْ القديس بولس الرسول لأهل غلاطية «أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي» (غل4: 15). ما هذا العجب..؟! لقد ارتبطنا بالذي بذل ذاته على الصليب، وصِرنا نزرع بالبركات.. منتظرين حصاد البركات في السماويّات.
(يُتّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك