القربان والتقدمة
-2-
❇️ تقدمة خدمة القدّيسين:
هكذا سُمِّيَت في الكنيسة المسيحيّة منذ الأيام الأولى، حين حصلت المجاعة في أورشليم، وصار المسيحيّون يُقدِّمون تقدمةَ فيضِ المحبّة من أعضاء الجسد الواحد؛ ورغم أنّ كلّ المسيحيّين الأوائل كانوا من فقراء الشعب، وبعضهم من العبيد المعدَمين، ولكن شهد الرسول بولس أنّ فقرَهم العميق فاض غنىً وسخاءً لا يوصَف. وشُبِّهَ عطاؤهم لأخوتهم تشبيهًا روحيًّا استمدّه من رمز الكنيسة في القديم، الذي هو شعب إسرائيل الخارج من العبودية، مقودًا بالروح إلى حيث ميراث أرض الميعاد، فقال: «لِكَيْ تَكُونَ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ» (2كو8: 14).. مِثل كيل المنّ النازل من السماء، كيف أُعطِيَ بحسب المساواة كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ، وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ» (2كو8: 15). وقد أسماها القديس بولس الرسول «بركة»، فقال لأهل كورنثوس: «أَطْلُبَ إِلَى الإِخْوَةِ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَيْكُمْ، وَيُهَيِّئُوا قَبْلاً بَرَكَتَكُمُ... لِتَكُونَ مُعَدَّةً هكَذَا كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ» وقال لهم أيضاً: «مَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ. كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ» (2كو9: 5-7).. بل بسرور القلب.
هكذا كانوا يُقدِّمون للربّ، وكان من ثمر التقدمة أن ازداد الشكر والتسبيح لله في كنيسته، إذ من جهةٍ حُسِبَ الذين قدموا أنّ قلبَهم فاض من ملء الحبّ قبل أن يُقدِّموا الأشياء المنظورة.
خِدمة احتياجات القدّيسين تبلغ كمال معناها عندما نرى الرب يسوع متجسِّدًا فيهم، ومعلَنًا أمام عيون أولاده؛ إذ أنّ الأعضاء القبيحة نعطيها كرامة أفضل، إذ هي متّصلة بالرأس وحيّة به وفيه. ولأنّ المسيح بالحقيقة هو رأس الكنيسة، فماذا يُمَيِّز الأعضاء عن بعضهم ما دامت الحياة التي تسري فيهم جميعًا واحدة.
«جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي» (مت25 : 35).. إذن هل رأينا المسيح جوعانًا فأطعمناه؟ أم أنّها مجرَّد خِدمة اجتماعيّة، يَعمَل القائمون عليها كأنّها إحدى مؤسسات العالم، التي تخدم الفقراء والضعفاء والمرضى في المجتمع العالمي. وما أكثرها وما أقدرها وما أضخم أرصدتها؟
الأمر مختلف تمامًا.. إنّ التقدمة يجب أن تكون روحيّة بكلّ المقاييس:
الدافع للعطاء روحىٌّ..
والوسيلة روحيّة..
والرؤية كاملة واضحة.
❇️ ملكيّة الله:
لقد انتقلت العطايا التي قُدِّمت في القديم لعمل الخيمة أو بناء الهيكل، مِن ملك الناس إلى ملك الله.. صارت جميعها تنتسب إلى الله. فالخيمة بكلّ ما فيها، والهيكل بكلّ ما يحتويه، هو هيكل الله.. كلّ ما فيه قُدسٌ للربّ.
فماذا عن عهد النعمة؟! إنْ كان الذي يُعطِي ويقدِّم لله هو بذاته قُدسٌ للرب. فقد تقدّست العطايا من أساسها. فبينما كانت تحت تَصَرُّف الإنسان، كان يتصرّف فيها كأمين مِن قِبَل الله. وعندما تُعطَى لخدمة الكنيسة واحتياج القديسين، تكون قد أَكمَلَتْ الغرض الذي كانت من أجله موضوعة تحت يديّ للتصرف.
في بداية المسيحيّة، كان كلّ الذين عندهم أملاك أو حقول، كانوا يبيعونها، ويضعونها تحت أرجل الرسل، وكلّ واحد كان يأخُذ بقدر احتياجه. لم يطلب الرسل من أحد أن يبيع أو يترك، ولا طلبوا لأنفسهم شيئًا مِن أحد لأنّ الذي أرسلهم بلا كيس وبلا مذود كان يعتني بهم، وهم كرّسوا نفوسهم لخدمة الكلمة، حتى خدمة الموائد لم تشغلهم عن هدفهم.. كان التجرّد من أموال الدنيا هو الخَطّ الذي رسمه لهم مخلّصنا فأطاعوه حتى النهاية.
لَمّا فعل حنانيا فعلته، واختلس من ثمن الحقل الذي باعه.. قال له القديس بطرس: «يَاحَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ... أَلَيْسَ وَهُوَ بَاق كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هذَا الأَمْرَ؟» (أع5: 3، 4). ظَنّ حنانيا أنّه المالِك.. وأنْ ليس للربّ ولا للكنيسة أن تأخذ الكُلّ، فأبقَى لنفسه جزءًا، اعتُبِرَ اختلاسًا في عُرف الروح.
قُلْ أنا مِلكُ المسيح الذي اشتراني، فما عساي أن أملك؟ وقُلْ حين تمدّ يدَك للتقدمة لمَن هم في عوزٍ أنّها حاجتهم عندي.. تركها الله لهم طرفي فأنا أعطيهم ما لهم. وهذا حقّ، فما هو عندي هو وديعة، ليسَت لي فإن أعطيتُ لمَن هي لهم فلا فضلَ لي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك