2020/07/28

العدو الأخير






-1-

 وردَتْ كلمة الموت في أول وصيّة أوصاها الله للإنسان الأول، قائلاً له: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تك2: 17). ولم يكُن أبونا الأوّل يعرِف الموت، إن لم يكُن قد دخل في عِبرة العصيان، ومخالفة الوصيّة المقدّسة. هكذا دخل الموت بالإنسان الأوّل إلى جميع جنس البشر.

 بإنسان واحد دخل الموت وحُسِبَ كلّ جنس البشر أمواتًا.. إذ صار الموت يسري في جسد البشريّة، ولا ملاذ ولا مَخرَج.. هكذا أخذ الموت الشكل الجبري. 
وحقيقة الموت هي الانفصال عن مصدر الحياة.. الانفصال عن الله الحيّ. فلمّا فَصَلَ الإنسان إرادته عن الله دخل الموت.. وساد الموت على كلّ إنسان.

 المسيح هو الحياة، هو مصدر الحياة.. فلمّا اتّحد بالإنسان في بطن العذراء.. دخلَتْ الحياة إلى الإنسان مرّة أخرى. وقال الوحي «الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ» (1يو1: 2). لذلك دُعي المسيح آدم الثاني.. أبو الجنس البشري الإلهي الجديد. 
في آدم مات الجميع، وفي المسيح يحيا الجميع. لمّا مات المسيح أمات الموت، ولمّا قام وهبَ الحياة للموتى.

 قيامة المسيح من الأموات هي حجر أساس إيماننا. نحن نؤمن بالقيامة في المسيح، وخارِجًا عن المسيح لا توجد حياة ولا قيامة. الموت الآن يعمل في الجسد فقط، أمّا أرواحنا المتّحدة بالمسيح القائم فلا تموت.. المسيح أنار لنا الحياة والخلود، ووهب لنا الحياة من الموت. 
كيف يقوم الأموات؟
 هكذا تساءل القديس بولس الرسول في معرض حديثه عن القيامة. وقد نطَقَ بكلام الحكمة وبرهان الروح قائلاً لناكري القيامة: «يَا غَبِيُّ الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ» (1كو15: 36).. فالقيامة تنبت من الموت؟ يا للعجب.
 إنّنا نمارس ذلك، ونراه كلّ يوم في الحياة الماديّة، ولكن نفشل في التطبيق عندما نقترب من أمور الروح.

 زَرْع حبّة الحنطة هو قمّة التفسير، فحَبَّة الحِنطة تُلقَى في الأرض وتموت.. هكذا قال الرب، وإن ماتت تأتي بثمر كثير.. وإن لم تمُت تَبقَى وحدها، أيْ لا تكون لها قيامة. وعندما تموتُ حبّة الحنطة في باطن الأرض، ويفنَى شكلها الخارجي وجسمها الظاهر، حينئذ تنبُت الحياة الجديدة منها. والجسم الذي ينبت هو غير الذي نزرعه ولكنّه نابت منه، أو قُلْ هو الهيئة الجديدة للحَبّة القديمة، عندما تنبت الحياة من الموت.
 هكذا إنساننا الخارج الذي لابد أن يَفنَى ويَبلَى ويموت، ولكن بسبب الحياة الداخلية التي فيه فإنّ الحياة الجديدة تنبت من موته. وسيُغَيِّر الله شكل جسد تواضعنا هذا. الجسد القائم أو جسد القيامة ستكون هيئته مختلفة تمامًا عن هيئة جسدنا الترابي، كاختلاف هيئة النبات عن هيئة البذرة. 
 سنلبس صورة ذلك الذي من السماء.. كما لبسنا صورة الذي من التراب.
+ المسيح هو القيامة، وسنكون شكلَهُ ومثلَهُ عندما نلبس هيئتنا الجديدة، به وفيه سيُبتَلَع المائت من الحياة. 
ستنَبُت حبّة الحنطة نبتةً جديدةً، وجسمًا جديدًا، وهيئة جديدة . سنتغيّر.. سيتغيّر شكلنا وصورتنا وهيئتنا. ولكن من المؤكّد أنّنا نحن وكيانُنا هو هو.
 وعندما أتكلّم عن نفسي مثلاً.. أقول إنّ إنساني الخارجي سيفنَى ويموت ويضمحل، حينما تقَع حبّة الحنطة في باطن القبر.. في التراب. ولكنّني سأظلّ حيًّا، بسبب نعمة الحياة التي فيّ داخلي، وزرع الله المُخفَى فيَّ.
 «الْخَارِجُ يَفْنَى، وَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ» (2كو4: 16).
الخارج ضعيف والداخل قويّ بالنعمة.
 الخارج مائت، أما الداخل فلا يموت، بل هو متّحد بالمسيح الحياة.
الخارج مثل قشرة البيضة.. الحياة داخلها.. وحينما يكتمل نموّ الفَرخ داخل هذه القشرة الميّتة فإنّه يفقس.. ينقرها.. ويخرج منها.. لأنّها لَم تعُد تصلُح لحياته الجديدة.
حينما يكتمِل نموّ إنساننا الروحي سنترك هذا الجسد، هذا الإناء الخزفي الترابي. فهو صالح لنا طالما نحن نحيا في عالم التراب والمادة. وإنساننا الداخل ينمو كلّ يوم.. وينمو في كلّ شيء إلى أن يبلغ كمال نموّه السماوي.. فيولَد في عالم الروح، إذ يخلَع الإنسان الخارج مع كلّ أعماله وكلّ متعلّقاته.
هيئة الإنسان في القيامة:

 لا تسعفنا الكلمات المادّيّة أن نصف بها الروحيّات. ولكن مقياس الروح هو الذي يقارِن الروحيّات ويدركها. كما لا تُلمَس الروحيّات باليد الجسديّة ولا تُرَى بالعين المادّيّة، كذلك لا تُدرَك الروحيّات بالعقل الجسدي البشري. 

 عندما يستنير العقل بنور الروح القدس يذوق عربون السماويات. ولكن يظلّ يقول: «مَا لَمْ تَرَه عَيْنٌ (مادية)، وَلَمْ تَسْمَعْ به أُذُنٌ (بشرية)، وَمَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ (قلب) إِنْسَانٍ (يحيا في العالم)» (1كو2: 9). ولكن أدركه الروحيّون، حينما أدركوا الذي من أجله أدركهم المسيح، حينما عاشوا بالروح، ودخلوا إلى الحقّ والنور والحياة بالصلاة الخالصة، والعبادة والسجود، والأصوام المتواترة، وخلوص النيّة وطهارة الضمير، وتكميل مطالب التوبة. وشيئًا فشيئًا صاروا كمواطنين سمائيّين.. أحسّوا بإحساس حقيقي، وتيقّنوا بالرؤيا العقليّة من مجد السماء، وميراث أولاد الله في المسيح.

(يُتَّبَع)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك

إعلان1
إعلان2
إعلان3