الإيمان.. وثلاث حقائق
بدايةً، ينبغي أن نعترف أنّ الموقف الحالي الخاصّ بطريقة تناول الأسرار المقدّسة في ظروف وباء كورونا، هو جديد على الجميع، ولم تتعرّض له الكنيسة من قبل بهذا الشكل.. ومع أنّ الوباء يأتي في ظلّ وجود العلوم الحديثة والتقدّم الطبّي الهائل.. إلاّ أنّ العلماء لايزالون يُسابِقون الزمن في إنتاج مصل لهذا الفيروس الخطير والجديد على البشريّة..
من هنا تأتي ردود الأفعال متباينة، بين الحذر والقلق والخوف.. والمطالبة بتغيير طريقة التناول.. مع اتهامات متناثرة من أطراف عديدة، بضعف الإيمان من جهة، أو بالاستهانة بحياة الناس من جهةٍ مُقابِلة..!
الحقيقة أنّ الجميع لديهم غيرة طيّبة على الكنيسة وعلى الإيمان، ولكنّنا نحتاج أن نتناقش بهدوء، ونتعلّم ونتفهّم ونستوضِح الأمور، بدون عصبيّة ولا اتهامات مُسبَقة.. لكي لا تختلط الأمور بل تكون غيرتنا بحسب المعرفة، وفي مكانها الصحيح.
أعتقد أنّه يمكننا التمييز داخل إيماننا بين ثلاثة أنواع من الحقائق، تُكَمِّل بعضها بعضًا:
الحقيقة الأولى
أنّنا نؤمن بالأسرار المقدّسة، وفاعليّتها الروحيّة، وبأنّ هذه الأسرار تُعطِي لكلّ مَن يتناول منها خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبديّة.. وهذه الحقيقة تشمل الإيمان بحدوث معجزة التحوُّل التي تحدث على المذبح في كلّ قدّاس بواسطة حلول الروح القدس على الأسرار، فيتحوّل الخبز والخمر إلى جسد حقيقي ودم حقيقي للسيّد المسيح.. ولا يُمكِن وضع السرائر المقدّسة تحت أي مقاييس مادّيّة بعد ذلك؛ لا من ناحية الفحص الميكروسكوبي، ولا من ناحية طريقة سريان الأسرار في أجسادنا.. فنحن نتمتّع بنعمة روحيّة إذ نتناول حياة المسيح فينا، ونثبت فيه وهو يثبت فينا، ونصير معه جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا..
الحقيقة الثانية
أنّنا نؤمن بالمعجزات بوجه عام.. وبأنّ قدرة الله فائقة، إذ له سُلطان على المرض والشفاء، بل وإقامة الموتى، فهو واهب الحياة وطبيب ما بعد الموت، إذا جاز التعبير.. ونؤمن بأنّ المعجزات في حياة الكنيسة لا تتوقّف، وعجيب هو الله في قدّيسيه، فهم مع الملائكة يعملون معنا باستمرار بشكل مُفرِح.. ولا تخلو حياة أي إنسان مسيحي من أعمال الله المعجزيّة معه في إرشاد أو ستر أو معونة أو حفظ أو سند أو تعزية أو إنقاذ... والآيات تتبع المؤمنين.. (مر16: 17)
الحقيقة الثالثة
أنّنا نؤمن بأنّ الله يسيِّر العالم بالقوانين الطبيعيّة، وليس بالمعجزات.. فالمعجزات هي استثناء، يقوم بها الربّ في الوقت الذي يريده، بحسب مشيئته الصالحة، ولكن العالم يسير بحسب قوانين الطبيعة التي وضعها الله.. لذلك نحن نحترم هذه القوانين، ونحترم العِلم.. ولا نجرّب الرب بتحدِّي قوانين الطبيعة.. فمثلاً، مَن يُلقي بنفسه من مكانٍ عالٍ لا ينبغي أن يتوقّع حدوث معجزة، وأنّ الملائكة ستحمله على أجنحتها لينزل سالمًا، بل أنّ في هذا التصرُّف تَحَدّيًا لقوانين الطبيعة، وقد يدفع حياته ثمنًا لهذا التحدّي.. فليس هذا إيمانًا بل هو تهوُّر ومجازفة خطيرة في غير محلّها..!
من خلال تمييزنا لهذه الحقائق المتكاملة، وغير المتعارضة، التي للإيمان.. نستطيع أن نفهم لماذا كان القدّيس بولس الرسول مريضًا، بينما كان منتظمًا في التناول.. وفي نفس الوقت كانت العصائب التي على جسده تشفي الأمراض وتُخرِج الأرواح الشرّيرة..!
❇️
فالتناول كان يُثَبِّته في المسيح وفي الحياة الأبديّة، وهذا بحسب إيماننا بالحقيقة الأولى..
❇️
بينما مرضه الجسدي لم يُشفَ بالتناول، بحسب الحقيقة الثالثة، إذ أنّ هناك قوانين طبيعيّة سارية على الجميع، وتوجَد أسباب للمرض..
❇️
أمّا شفاء الأمراض عن طريق العصائب التي كانت على جسده، فهذه قوّة مُعجزيّة استثنائيّة تَمَجّدَ الله من خلالها مع بعض المرضى المحيطين بالقدّيس، من أجل تقوية الإيمان ودعم الكرازة بالكلمة التي كان الرسول يقوم بها في أفسس.. وهذه هي الحقيقة الثانية.
نموذج آخَر للتمييز بيـن الحقائق الثلاث
❇️
إذا حدثت عدوى لإنسان نتيجة ملامسة أي سطح ملوّث، سيَمرَض الإنسان، نتيجة أنّ هذه هي قوانين الطبيعة، بحسب الحقيقة الثالثة..
❇️
يستطيع الله بالطبع أن يحمي الإنسان من الإصابة أو يشفيه، بحسب الحقيقة الثانية.. ولكن يبقى هذا استثناءً لا ينبغي أن نبني تصرّفاتنا عليه..
❇️
قد يحدث ذلك أثناء التناول من الأسرار المقدّسة، دون أن يؤثّر هذا على فاعلية التناول الروحيّة في تطهير الخطايا وتثبيتنا في المسيح.. بحسب إيماننا بالحقيقة الأولى.
من أجل هذا نحن لا نخلط بين الحقائق الثلاث، بل نميّز بينها ونراها تتكامل مع بعضها..!
من هُنا يأتي تدقيقُنا في اتّباع أكثر الطرق حِرصًا أثناء تقديم الأسرار المقدّسة للشعب، لأنّنا نحترم العِلم وقانون الحياة الطبيعيّة؛ الذي لا يتعارض مع إيماننا بالمعجزات، ولا بقوّة التقديس والحياة الأبديّة التي تهبها الأسرار لنا..
دمتم في سلام المسيح،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك