كرامة الزواج المسيحي
-2-
صلاة سِرّ الإكليل المُقدَّس
الزواج بحسب إيماننا الأرثوذكسي هو سِرّ من أسرار الكنيسة، كسِرّ المعموديّة التي هي الولادة الثانية، وسِرّ الإفخارستيا (الشكر) الذي هو شركة جسد المسيح، وباقي الأسرار التي تتم بفِعل الروح القدس، وتتقدّس بكلمة الله والصلاة.
في سِرّ الزيجة يحلّ الروح القدس، فيُوَحِّد ويؤلِّف ويَخلِق من الاثنين واحدًا، فيحصُل الاثنان على نعمة اتّحاد فائق للإدراك البشري. ويَكمُل قول المسيح فيهم «ما جمعه (أزوجه) الله».
التركيز في صلاة الإكليل على حضور المسيح له المجد في عُرس قانا الجليل، والطِّلبة أن يحلّ المسيح، وكما بارك في ذلك العرس وحوّل الماء خمرًا حقيقيًّا بسلطان لاهوته، يحلّ ويبارك هذا الزواج، ويحوِّل بقدرته مادّة السرّ (الرجل والمرأة) ويخلقهما كيانًا واحدًا، نفسًا وجسدًا وروحًا.
وكما يستمدّ القداس الإلهي من عمل المسيح في يوم الخميس الكبير، حينما شكر وبارك وكسر وأعطى.. فيقول الكاهن كما باركت في ذلك الزمان الآن أيضًا بارِك. فالسرّ ممتدّ والروح حالّ وفاعل، وجسد المسيح الواحد المكسور عن العالم كلّه يصير حاضرًا معنا على المائدة المقدسة.
كذلك بالتمام يصير حضور المسيح في عُرس قانا الجليل بالنسبة لكلّ إكليل. فالمسيح (العريس الحقيقي) حاضر وفاعل بقوّته الإلهيّة وهو متمِّم السرّ. فليس الكاهن إلاّ أداة يعمل المسيح بها عمله العجيب.
والمتأمِّل في عُمق الصلاة وإبداع الطقس الكنسي الإلهي يستطيع أن يُدرِك ما وراء الحركات المنظورة مِن نِعمٍ غير منظورة:
(1) يدخل بالعريس إلى الكنيسة – خورس الشمامسة – وهم يقولون بلحن الفرح «إب أُورو.. يا ملك السلام أعطِنا سلامك». وهذا اللحن يُقَال وهم يدخلون بالحَمَل إلى الكنيسة.. وهو يُعبّر عن حضور المسيح في كنيسته، إذ هو ملك السلام ورئيس السلام، واسمه عمانوئيل إلهنا في وسطنا يباركنا كلّنا.
فالكنيسة ترى في كلّ عريس شخص المسيح العريس الحقيقي. فإنْ أدركَ العريس وضعَه كإنسان حيّ بالمسيح، وكحاصل على نعمة تمثيل المسيح كعريس ورأس للجسد، وكمسيح للأسرة، وباذل نفسه حتى الموت لكي يقتني ويُخَلِّص.. لو أدرك العريس الداخل إلى العُرس مَدى النعمة التي يحصل عليها، لعاش حياة المسيح، واقتنى سرّ المسيح بدراية وإدراك، وصار منزله حقًّا كنيسة مقدسة مسكنًا لله مع الناس!!
(2) بعد إتمام الإكليل يخرج الشمامسة وهم يزفّون العروسين، ويقولون لحن «افرحي يا مريم الملكة..» فكما تُمَجِّد الكنيسة عريسها الخَتَن الحقيقي الرب يسوع إذ تراه في كلّ عريس، كائن كمصدر للفرح.. هكذا تمجِّد العروس الحقيقيّة غير الدنسة الهادئة والدة الإله القديسة مريم، إذ تستمد كلّ عروس روحيّة رونقها وجمالها من جمال الملكة الحقيقيّة والدة الإله، التي صارت خِدرًا سمائيًّا حلّ فيها ملك الملوك وربّ الأرباب.
فالأصل في الفرَح هو المسيح بحضوره كعريس، واختياره لجنس البشر ككنيسة، وعروس مهيّأة ومزيّنة بالفضائل، مُكَمِّلة له وفيه وبه، قائمة عن يمينه في السموات.
(3) الجزء الأوّل من الصلاة يُدعَى «عقد الأملاك» وهو تمليك الرجل للمرأة والمرأة للرجل، إذ بعد ذلك لن يعود للرجل سلطان على جسده بل للمرأة ولا المرأة سلطان على جسدها بل للرجل، صار كلّ منهما ملكًا للآخَر كمَن باع نفسه وإرادته وجسده لكي لا يعيش بعد لذاته، بل للآخر.
كانت هذه الصلوات تُقَام عند بداية الاتفاق بين الخطيبين، وكانت تُعرَف بنصف الإكليل. فإن حدث خلاف أو عدم رضا ما كانوا يفكّون هذا العقد وكانوا يقولون «فَكّ الناموس حرام» فكانت هذه الصلوات كأنها رباط ارتبط به الخطيبان يستحيل معه التفريق، وكان الارتباط الكامل يتمّ بالاتحاد الزيجي بصلاة الإكليل.
وصلوات عقد الأملاك تُشبِه إلى حدّ كبير صلوات الإكليل، فهى تبدأ بالرشومات ثم بصلاة الشكر ورفع البخور، والبولس من كورنثوس يتكلّم عن الاتفاق في الرأي والفكر و«أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ... » (1كو10: 1)، ثم فصل الإنجيل «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ..» (يوحنا1). فالمسيح هو البدء والبداية وهو رأس العمل وصانع السلام.
ثم بعد ذلك الطلبات.. ثم صلوات على الثياب التى يلبسها العريس وعلى الحليّ التي تلبسها العروس، ثم صلاة شكر لله من أجل عمله.
فلما زادت الحالات التي يحدث فيها خلافات ويضطرّون إلى عمل الإكليل على غير وفاق كامل خوفًا من كسر الناموس.. ونتيجةً لذلك كانت تتمّ زيجات غير سعيدة، فقد رأى الآباء أن يضمُّوا صلوات عقد الأملاك إلى صلوات الإكليل المقدّس، ويصلّوها معًا في وقت الإكليل.. وذلك تفاديًا لِما كان يحدث من قبل، واستعاضوا بعمل صلاة لإعلان الخِطبة وهي ما يعرف بـ "Ge Peniwt چيه بين يوت" أي «أبانا الذي..» وهي مُجَرّد صلاة شكر، ويقال "أبانا الذي.." كبداية للاتفاق والإعلان أمام الناس.. ولا توجَد غضاضة في فسخ الخِطبة إن لم يحدُث الاتفاق.
(4) أثناء صلوات الإكليل، يلبس العريس بُرنُس الكهنوت، ويُشَدّ بزنار، ويوضع على رأسه إكليل، ويُمسح بالزيت.
والطقس هنا يضع على العريس ملامح المسيح، كملك مُتَوَّج وممسوح بالزيت كمختار الله ومسيح الرب، وككاهن يقدِّم ذبيحة نفسه، وكمشدود بزنار قرمزي مثل منتصرٍ في الحرب، وكمَن بَذَل نفسَه لاقتناء الكنيسة. والعريس إذ يتّحد بامرأتِهِ كمثال المسيح والكنيسة، يجب أن يكون فيه صورة المسيح. فإن كان قد لبس الإكليل فليَعلَم أنّ ملكوت المسيح يختلف جذريًّا عن ملكوت الناس، فالمسيح مَلَكَ بالحبّ لا بالحرب، ومَلَكَ بالصليب أي بالبذل، ومَلَكَ باتضاعٍ عجيب، وقال: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو18: 36).
فإن قلنا إنّ الرجل رأس المرأة فهذا حقّ، ولكن على مقياس أنّ المسيح رأس الكنيسة، وإن قلنا إنّ العريس هو مَلِكُ البيت وربُّ البيت، ولكن على قياس ملكوت المسيح والصليب، وإن قلنا إنّ العروس تخضع لعريسها، لكن على مقياس خضوع الكنيسة للذي فداها. وإن كان العريس يلبس بدلة الكهنوت فكهنوت المسيح ليس إلا ذبيحة نفسه فهو الكاهن والذبيحة معًا.
فإن وَعى أحد هذا السر فقد تقدّس فِكره، وتكرّسَت حياته لتكميل عمل الله، وإظهار نموذج عمل الاتحاد الإلهي لمجد المسيح والكنيسة.
(5) في ذات الوقت تلبس العروس إكليلها.. فهي قائمة عن يمين عريسها بثياب بيضاء مُكلّلة بالمجد والكرامة.. «فالْمَرْأَةُ لَيستْ مِنْ دُونِ الرَّجُلِ فِي الرَّبِّ ، فكَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ يُحِبُّ الرجل امْرَأَتَهُ كنَفْسَهُ» (1كو11: 11، أف5: 25، 28)، فإن صار العريس بالإكليل مَلِكًا في بيته ككنيسة صغيرة، فإنّ العروس المُكلّلة هي ملِكة مكرّمة ككرامة كنيسة المسيح في السماء. فالمساواة قائمة على أساس الجسد الواحد والروح الواحد والكيان الواحد. ولكن كمِثل الرأس في الجسد الواحد يكون العريس، ومثل الجسد للرأس تكون العروس، وليس بين أعضاء الجسد الواحد انشقاق بل امتزاج كامل، وإن اختلفت وظائف الأعضاء ولكنّ الروح الذي يُحيي هو واحد.
(6) الوحدانية التي يَعمَلها الروح في سِرّ الإكليل تحتاج إلى ممارسة وفهم روحي، والذي يضمن دوام الوحدانيّة هو الروح القدس الذي قَدّس ووَحّد الاثنين بحلوله، دوام الخضوع للروح القدس وجَعْل الحياة في قيادته يَضمَن تأصُّل الاتحاد، وتعميق الامتزاج وكماله، والعكس صحيح فإن عاش الزوج والزوجة بمفاهيم عالميّة جسدانيّة فكيف تقوم الوحدانيّة بينهما وعلى أي أساس؟
لذلك توصي الكنيسة كلّ عريس وعروسة، أن يحيوا بالروح في الصلاة المتواترة والأصوام وممارسة الفضائل وحفظ وصايا المسيح.
فإن كانت الوصايا للعريس، فهي تختصّ بعمل الرأس وأن يكون بنِيّة خالصة وقلب سليم يجتهد فيما يعود لصالحها، ويُسِرّ قلبها، ويكون حنونًا عليها. وتُذَكِّره الكنيسة بمسئوليّته عن جسده (عروسه) بعد والديها.
ومن جهة العروس، فهي في موضع المُعِين والمُفَرِّح القلب والخضوع ووداعة الحكمة و«زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ» (1بط3: 4).
فإن تَعَمَّقْتَ هذه الوصايا، تجدها تجسيدًا لحياة روحيّة سواء من جهة الرجل أو المرأة.. فثمر الحياة بالروح يكون أكثر من هذه الوصايا بما لا يُقاس.
(يُتّبَع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك اذا كان لديك أى تسائل عن الموضوع وسنجيبك فور مشاهده تعليقك